لم تقف الدلائل والمعجزات النبويّة مع الجمادات عند حدود النطق والكلام والحركة، بل إمتدّت لتشمل الحب والشوق، والمشاعر والأحاسيس، نعم، لقد سمع الجبل كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأطاعه، وأحبه وإشتاق إليه، إنها دلائل ومعجزات مع الجمادات التي لا روح فيها، أعطاها الله لنبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم، تأييداً لدعوته، وإعلاءً لقدره، الأمر الذي ترك أثره في النفوس، ولفت إنتباه أصحابه نحو دعوته التي جاء بها، وأثبت لهم أنها دعوة صادقة مؤيدة من الله.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر أخدمه، فلمّا قدِم النبي صلى الله عليه وسلم راجعا وبدا له أُحُد، قال: «هذا جبل يحبّنا» رواه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أُحُدا جبل يحبنا ونحبه» رواه مسلم.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: صعد النّبي صلى الله عليه وسلم إلى أُحُد ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فضربه برجله قال: «اثبت أحد، فما عليك إلّا نبيّ، أو صدّيق، أو شهيدان» رواه البخاري.
وفي هذه الأحاديث فوائد كثيرة، منها:
ـ حب وشوق الجماد للنبي صلى الله عليه وسلم:
إن كان عجيبا أن يحب النبيَّ صلى الله عليه وسلم ما فيه روح مما لا يعقل، كالشجر الذي كان يعرفه ويسلم عليه، وجذع النخلة الذي إشتاق إليه، وبكي لفراقه، فالأعجب حقّا، أن يحب النبيَّ صلى الله عليه وسلم ما ليس فيه روح ولا عقل، شيء إن نظرتَ إليه ظننتَ أنه جماد، ولا يسمع ولا يرى، ولكنه في الحقيقة يسمع ويعقل، بل يشتاق ويحب، إنه جبل أحد الذي أحب النبي صلى الله عليه وسلم ، وسمع كلامه «اثبت أحد»، وأطاع أمره فسكن وثبت.
وقد رجح ابن حجر أن حب النبي صلى الله عليه وسلم لأحد، وحب أحد له هو على حقيقته، فقد قال في كتابه فتح الباري: الحب من الجانبين على حقيقته وظاهره، وقد خاطبه صلى الله عليه وسلم مخاطبة من يعقل، فقال لما اضطرب: «اسكن أحد».
وقال السهيلي: كان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن والاسم الحسن، ولا اسم أحسن من إسم مشتق من الأحدية، قال: ومع كونه مشتقا من الأحدية فحركات حروفه الرفع، وذلك يشعر بإرتفاع دين الأحد وعلوه، فتعلق الحب من النبي صلى الله عليه وسلم به لفظا ومعنى.
وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: الصحيح المختار أن معناه أن أحدا يحبنا حقيقة، جعل الله فيه تمييزا يحب به، كما قال: سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74].
ـ الكلام مع الجمــاد:
أعطى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم القدرة على مخاطبة الجمادات، ولو أنها لا تعقل كلامه صلى الله عليه وسلم ما كان لتوجيه الكلام لها من معنى، فقد قال صلى الله عليه وسلم مخاطبا جبل أحد: «اثبت أحد».
قال ابن حجر: فضربه برجله وقال: «اثبت» بلفظ الأمر من الثبات وهو الإستقرار، وأحد: مُنادَى، ونداؤه وخطابه يحتمل المجاز، وحمله على الحقيقة أولى.
ـ شعور وفرح:
لقد فرِح جبل أحُد حتى إنه إرتجف فرجف بهم، وما يكون الرجف إلا هيبة وفرحا وإستبشارا، ولا يتصوّر عِظم هذا الأمر إلا من رأى هذا الجبل الضخم الشامخ، فيتخيل كيف إهتز وإضطرب لصعود النبي صلى الله عليه وسلم عليه.. ومن ثم تظهر كذلك قدرة الله عز وجل الذي جعل في الجماد الأصم إحساسا يحب به، وجعل له إدراكا يشعر ويعرف من يقف عليه فيضطرب لذلك.
ـ حُبٌ ومعجزة:
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أُحُدا جبل يحبنا ونحبه» بيان عظيم لحبّ الله عز وجل لنبينا صلى الله عليه وسلم ، إذ ألقى في الجمادات حبه صلى الله عليه وسلم..
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «فما عليك إلّا نبيّ، أو صدّيق، أو شهيدان» معجزة ظاهرة، وهو إخباره أن عمر وعثمان رضي الله عنهما سينالان الشهادة في سبيل الله تعالى، وقد وقع الأمر كما قال وأخبر صلى الله عليه وسلم..
¤ نحن أولى بحبه صلى الله عليه وسلم:
إذا كان جبل أحد يحب النبي صلى الله عليه وسلم حبّا على سبيل الحقيقة لا المجاز، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يُبْعَثْ إليه، وليس له عليه مِنَّة ظاهرة، كمِنَّته صلى الله عليه وسلم على جميع الأمة، فكيف يجب أن يكون حبنا للنبي صلى الله عليه وسلم والذي شملتنا منّته صلى الله عليه وسلم من كل وجه، كما أن من السُنَّة أن نحب جبل أحد لحب النبي صلى الله عليه وسلم إياه.
لقد أجرى الله تبارك وتعالى على أيدي أنبيائه ورسله من المعجزات الباهرات والدلائل القاطعات التي تدل على صدق دعواهم أنهم رسل الله.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو أكثر الرسل معجزة، للدلالة على علو شأنه ومنزلته عند ربه، فله من المعجزات ما لا يُعد ولا يُحد، ومنها حب الجبل له، وشوقه إليه، وطاعته إياه صلوات الله وسلامه عليه.
المصدر: موقع إسلام ويب.